ثورة الورود .. و16 عاما من جورجيا السوفيتية نحو جورجيا الأوروبية
بعد مرور عقدين على حكم الرئيس الأسبق الموالي لموسكو، إدوارد شيفرنادزه، شهدت خلاله جورجيا نزاعات دموية وحروب أهلية، وعانت من الجريمة والفساد حتى صُنّفت في قائمة أكثر البلدان فساداً في العالم، كما لم تعرف البلاد خلال تلك الفترة أيّ انتخابات ديمقراطية يُشار إليها بالبنان؛ خرجت المعارضة باحتجاجات شعبية عارمة غيرت مسار البلاد عُرفت باسم ” ثورة الورود “.
لمشاهدة الفيديو الوثائقي حول ثورة الورود السلمية في جورجيا 2003 استمر في المتابعة لنهاية المقال
الأشواك تطرح ثورة الورود
عقب استقلال جورجيا عن الاتحاد السوفيتي في 9 أبريل/ نيسان 1991، عانت البلاد من اضطرابات سياسية، كان أولها الانقلاب الدموي بعد مرور 8 أشهر فقط على استقلال جورجيا، والذي أطاح بأول رئيس لجورجيا المستقلة، زفياد جامساخورديا، ودخلت البلاد في حرب أهلية مريرة حتى انتخاب إدوارد شيفرنادزه رئيساً رسمياً للبلاد عام 1995.
إلى جانب الاضطرابات السياسية، عانت جورجيا من انهيار اقتصادي حاد، وكان أكثر من نصف سكانها يعيشون تحت خط الفقر، وانتشر الفساد والجريمة على أيدي كبار المسؤولين، ووُجهت أصابع الاتهام إلى شيفرنادزه باستغلال منصبه كرئيس للبلاد لتحقيق مكاسب شخصية، وحماية مؤيديه والمقربين منه رغم تورطهم في قضايا فساد، وفي ذلك الوقت صنفت منظمة الشفافية الدولية جورجيا في المركز 124 من بين 133 دولة فيما يتعلق بمؤشرات الفساد لعام 2003.
كمارا .. أو حركة كفاية تستلهم التجربة الصربية
حركة أوتبور الصربية التي تحمل شعار قبضة اليد السوداء والتي نشطت في صربيا ما بين عامي 1998 و 2000 وأدت إلى الإطاحة بحكم الديكتاتور الوحشي سلبودان ميلوسوفيتش في صربيا.
كانت أوتبور إلهامًا للكثير من الشباب حول العالم ، استلهمتها الحركات الطلابية في جورجيا وبدأ شعار ” كمارا ” [ باللغة الجورجية أو ” كفاية ” بالعربية ] ينتشر على جدران تبليسي ومدن أخرى في جورجيا منذ فبراير 2003.
وأنتهت الحركة في قمة تفاعلها بالحشد لتظاهرات ثورة الورود والفعالية في محاصرة مبنى البرلمان الجورجي في ليلة الـ 8 من نوفمبر 2003 والتي أستمرت في التظاهر والاعتصام حتى استقالة شيفرنادزه.
الاسم ذاته هو ما استنسخته المعارضة في جمهورية مصر العربية عام 2008 تحت اسم ” حركة كفاية ” ، بينما إستنسخ الشعار نفسه الحركة الشبابية 6 أبريل ليكون شعارها في المقاومة السلمية لسلطات محمد حسني مبارك في ذلك الوقت.
الانتخابات البرلمانية عام 2003 تشعل فتيل ثورة الورود
في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2003، نظمت جورجيا انتخابات برلمانية، وُصفت بأنها الانتخابات الأكثر فوضوية في تاريخ البلاد، وأجمع المجتمع الدولي على أنها بعيدة كل البعد عن أسس الديمقراطية، وعلى إثر ذلك قررت المعارضة وعلى رأسها حزب الحركة الوطنية بقيادة ميخائيل ساكاشفيلي، الاحتجاج على نتائج الانتخابات “المزوّرة”، وبدأت بالتعبئة الشعبية وإطلاق احتجاجات سلمية استمرت مدة 17 يوما.
التسلسل الزمني لـ ” ثورة الورود “
احتجاجات مطالبة بإلغاء الانتخابات البرلمانية (4 – 7 نوفمبر)
اندلعت احتجاجات شعبية واسعة في العاصمة تبليسي، وباتومي، وبولنيسي، ومارنولي، وإيمريتي ومناطق أخرى، وطالب المحتجون من الحكومة إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية.
المطالبة باستقالة رئيس البلاد ووزير الداخلية (8 – 12 نوفمبر)
شهد يوم 8 نوفمبر مظاهرة احتجاجية ضخمة في ميدان الحرية في تبليسي، شارك فيها نحو 20 ألف محتج رغم إغلاق السلطات الطرق المؤدية إلى المدينة، وطالب المحتجون باستقالة وزير الداخلية ورئيس البلاد.
انتقل المتظاهرون إلى مبنى البرلمان، وظلت الاحتجاجات مستمرة حتى ساعات الليل، ومنذ يوم 9 نوفمبر ظل الاحتشاد أمام البرلمان متواصلا، ورغم حديث الكتلة الحاكمة عن تقديم تنازلات إلا أن الأوضاع تفاقمت بعد أن فشلت في التوصل إلى اتفاق مع المعارضة، لا سيما بعد إلغاء اجتماع كان مقررا بين الطرفين في 12 نوفمبر.
إعلان حالة العصيان المدني ( 13 – 19 نوفمبر)
وسط الاحتجاجات السلمية التي عمت أرجاء البلاد، أعلن زعيم المعارضة ميخائيل ساكاشفيلي، أنه لم يعد يتفاوض مع السلطات، وطالب باستقالة رئيس جورجيا، وفي اليوم التالي أعلنت المعارضة حالة العصيان المدني، في المقابل خرج مؤيدي الحكومة في مظاهرات أمام البرلمان في جورجيا في 17 نوفمبر، وحملوا الحركة الوطنية مسؤولية تحريض الشعب ضد الحكومة المدنية.
استقالة شيفرنادزه (20 – 23 نوفمبر)
مع إعلان لجنة الانتخابات المركزية النتائج الرسمية بفوز حزب اتحاد المواطنين الجورجيين الحاكم، سارعت المعارضة إلى حشد أنصارها في ميدان الحرية، فيما لا يزال آلاف المتظاهرين يواصلون احتجاجاتهم السلمية أمام البرلمان.
رغم حالة الغليان التي عاشتها البلاد آنذاك، إلا أن شيفرنادزه عقد الجلسة الأولى للبرلمان الجديد في 21 نوفمبر، وخلال إلقائه خطاب الترحيب اقتحم قادة المعارضة ( ميخائيل ساكاشفيلي و نينو بورجانادزه و زوراب زهفانيا ) قاعة البرلمان حاملين الورود الحمراء، و قاطعوا الجلسة .
وتمكنت المعارضة من السيطرة على مبنى البرلمان، ولاذ رئيس البلاد بالفرار مع حراسه، ولم يبد أي نية لاستقالته من منصبه.
ورتبت وزارة الخارجية الروسية اجتماعا بين زعماء المعارضة و شيفرنادزه في 23 نوفمبر، انبثق عنه إعلان الأخير استقالته من منصبه كرئيس للبلاد تحت ضغط المعارضة الشعبية وحقنا للدماء، وذلك بعد يوم واحد من رفض القوات المسلحة التدخل لفرض حالة الطوارئ، كما استقال وزير الداخلية كوبا نارتشماشفيلي، ووزير الدولة أفتانديل جوربنادزه.
دفع إبعاد شيفرنادزه بعشرات آلاف الجورجيين إلى احتفالات جماعية في الشوارعِ من الذين تجمعوا في شوارع تبليسي وميدان الحرية، ولقب المحتجون حركتهم باسم ” ثورة الورود “، مقارنة بالإسقاط السلمي للحكومة الشيوعية في تشيكوسلوفاكيا عام 1989 والتي سميت بـ “الثورة المخملية”.
بعد يومين من سقوط شيفرنادزه، أعلنت المحكمة العليا الجورجية إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية التي أجريت في 2 نوفمبر؛ بسبب ما شابها من تزوير، وقرر البرلمان الجورجي إجراء انتخابات رئاسية ديمقراطية ونزيهة، في جورجيا في 4 يناير/ كانون الثاني عام 2004، لاختيار خلف لشيفرنادزه، وفي ذلك الوقت كانت رئيسة البرلمان، نينو بورجانادزه، تحل مقام رئيس الجمهورية حتى إجراء انتخابات رئاسية.
جورجيا الجديدة .. ما بعد ثورة الورود
شهدت جورجيا تغييرات ملحوظة بعد ثورة الورود مباشرة على مستوى الحكومة والنظام الحاكم، ففي يناير عام 2004، فاز ميخائيل ساكاشفيلي (36 عاما) في الانتخابات الرئاسية، وحقق حزب الحركة الوطنية فوزا كبيرا في الانتخابات التشريعية في 28 آذار / مارس 2004، بعد أن حصد 67٪ من الأصوات ، بينما لم يفز أي حزب آخر بأكثر من 7.6٪، ومنذ ذلك الحين أطلقت الحكومة سياسات إصلاحية لتعزيز قدرات البلاد العسكرية والاقتصادية.
فائض في الميزانية
قامت إدارة ساكاشفيلي بإنجاز سلسلة من الإصلاحات الرامية إلى تحسين تحصيل الضرائب، ومن بين أمور أخرى تم إدخال ضريبة الدخل في عام 2004، نتيجة لذلك زادت إيرادات الميزانية 4 أضعاف وتحول عجز الميزانية الكبير مرة واحدة إلى فائض، وأدت جهود الحكومة الجديدة لإعادة تثبيت السلطة الجورجية في جمهورية أجاريا ذات الحكم الذاتي في جنوب غربي البلاد.
انخفاض نسبة البطالة
وبعد أن كانت نسبة الفقر في جورجيا خلال عام 2001 ، تبلغ 54٪ ، انخفضت بحلول عام 2006 إلى 34٪، ومنذ أوائل القرن الحالي شهد اقتصاد البلاد تطورات إيجابية واضحة، وأصبحت جورجيا واحدة من أسرع اقتصادات شرق أوروبا نمواً، ففي عام 2007، بلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الجورجي الحقيقي 12%، وانخفضت نسبة البطالة من أرقام مخيفة لتصل اليوم إلى 11 %.
معبر دولي للترانزيت
وأخذت البلاد التي تربط بين الشرق والغرب في التحول إلى معبر دولي من خلال مينائي باتومي وبوتي، كما أن خط أنابيب النفط “باكو – تبيليسي – جيهان” من باكو العاصمة الأذرية يمر من تبليسي إلى جيهان في تركيا، ويوجد انبوب غاز مواز “خط أنابيب جنوب القوقاز”، وتتوسط جورجيا خط سكة حديد تبليسي – باكو – قارص الذي يربط بين آسيا وأوروبا.
قفزات قطاع الخدمات
خلال السنوات القليلة التي أعقبت ثورة الورود ، أخذت جورجيا بالتحول إلى قطاع الخدمات، ويوماً بعد آخر تزداد أهمية القطاع السياحي في جورجيا، وباتت البلاد التي كانت تمزقها الصراعات الأهلية قبلة عالمية يقصدها ملايين السياح سنويا.
ثورة على الفساد .. تنقلب على المؤشر
وبعد مرور 16 عاما على ثورة الورود ، حققت جورجيا قفزة نوعية على مؤشر الفساد واحتلت المرتبة 41 للشفافية من بين 180 دولة على مؤشر الفساد حسب تقرير منظمة الشفافية الدولية 2019 ، بعد أن كانت في المركز 124 من بين 133 دولة عام 2003.
وحققت جورجيا المرتبة الأولى في مكافحة الفساد وفعالية الحكومة بين 14 دولة هامة عضو في الاتحاد الأوروبي، حسب تقرير البنك الدولي، وحسّنت موقعها في أفضل 20 دولة أوروبية ، وحلت في المركز 18 بينها.
جورجيا الأولى في مكافحة الفساد بتصنيف البنك الدولي 2019
شاهد بالفيديو : أول فيلم وثائقي باللغة العربية عن ثورة الورود السلمية من إنتاج هلا جورجيا
ثورة الورود تخرج إلى العالم
كانت ثورة الورود تمثل أول ثورة ضد الفساد في الدول التي أعلنت استقلالها عن الاتحاد السوفييتي، تبعتها الثورة البرتقالية في أوكرانيا ضد نتائج الانتخابات الرئاسية المزورة عام 2004، ثم اندلعت ثورة التوليب في قيرغيزيا مع الانتخابات البرلمانية عام 2005.
ثورة الورود .. و الربيع العربي
وبعد عدة أعوام انتقل صدى ثورة الورود وغيرها من الثورات الملونة في دول أوروبا الشرقية إلى الدول العربية، وبدأ فصل “الربيع العربي”.
من ثورة الياسمين في تونس خلال شتاء عام 2010- 2011، والتي نجحت في الإطاحة برئيس البلاد وقتها زين العابدين بن علي، تلتها مباشرة ثورة 25 يناير 2011 في مصر، وقد أسقطت الرئيس السابق محمد حسني مبارك.
ثم الثورات في سوريا واليمن وليبيا والتي تحولت إلى صراعات دامية متعددة الأطراف لا تزال إلى اليوم تستنزف الشعوب اليمنية والليبية والسورية.
بالتوازي مع ثورات لبنان و العراق الحديثتين ضد الحكومة والنظام الحاكم.
ويبقى التساؤل : أى من الأنظمة العربية بعد ثورات الربيع العربي قد تلحق بركاب ما فعلته جورجيا خلال 16 عامًا من ثورة الورود ! ؟
شاركنا الرأي والتعليق
المصادر : تقارير هلا جورجيا - ويكيبيديا - منظمة الشفافية - البنك الدولي